إعادة نشر
أراء من ذم العشق
كنا قد ذكرنا من قبل -نقلا عن صدر المتألهين في الحكمة المتعالية- مذاهب القوم في العشق أحسن هو أم قبيح؟ أمحمود هو أو مذموم؟ وقد ذكرنا آراء كثير من الحكماء والصوفية والأدباء الشعراء في تحسينة واعتباره من الفضائل، وبقي أن نذكر أمثلة لمن ذمه وقبحه واعتبره رذيلة وبلية، ومن هؤلاء الفيلسوف المتطبب (محمد بن زكريا الرازي)، والذي بالغ في ذمه حتى اعتبره فعل الخنثين من الرجال والفراغ المترفين المؤثرين للشهوات، حيث قال:
(أم الرجال الكبار الهمم والأنفس فإنهم يبعدون من هذه البلية من نفس طبائعهم وغرائزهم، وذلك أنه لا شيء أشد على أمثال هؤلاء من التذلل والخضوع والاستكانة وإظهار الفاقة والحاجة واحتمال التجني والاستطالة، فهم إذا فكروا فيما يلزم العشاق من هذه المعاني نفروا منه، وتصابروا وأزالوا الهوى عنه وإن بلوا به... فأما الخنثون من الرجال والغزلون والفراغ والمترفون والمؤثرون للشهوات الذين لا يهمهم سواها ولا يريدون إلا إصابتها، ويرون فوتها فوتًا وأسفًا...)
ولم يكتف الرازي بذلك حتى جعل العشاق في منزلة أحط من البهائم فقال:
(إن العشاق يجازون حد البهائم في عدم ملكة النفس وزم الهوى وفي الانقياد للشهوات؛ وذلك أنهم لم يرضوا أن يصيبوا هذه الشهوة -أعني لذة الباه، على أنها أسمج الشهوات وأقبحها عند النفس الناطقة التي هي الإنسان علىالحقيقة- من أي موضع يمكن إصابتها منه، حتى أرادوها من موضع ما بعينه فضموا شهوة إلى شهوة وركبوا شهوة على شهوة، وانقادوا وذلوا للهوى ذلا على ذل، وازدادوا له عبودية إلى عبودية والبهيمة لا تصير من هذا الباب إلى هذا الحد ولا تبلغة، ولكنها تصيب منه بقدر ما لها في الطبع مما تطرح به عنها ألم المؤضي المهيج لها عليه ولا غير، ثم تصير إلى الراجة الكاملة منه، وهؤلاء لما لم يقتصروا على المقدار البهيمي من الانقياد للطباع، بل استعانوا بالعقل -الذي فضلهم الله به على البهائم وأعطاهم إياه ليروا مساوي الهوى ويزموه ويملكوه- في التسلق على لطيف الشهوات وخفيها والتحيز لها والتنوق فيها...).
ولم يكتف بذم العشق من تلك الجهة بل أخذ يعدد مساوئه من الجهة الطبية والبدنية فقال:
(إن العشاق مع طاعتهم للهوى وإيثارهم اللذة وتعبدهم لها يحزنون من حيث يظنون أنهم يفرحون، ويألمون من حيث يظنون أنهم يلدون، وذلك أنهم لا ينالون من ملاذهم شيئًا ولا يصلون إليه إلا بعد أن يمسهم الهم والجهد ويأخذ منهم ويبلغ إليهم، وربما لم يزالوا من ذلك في كُرَب منصبة وغصص
متصلة من غير نیل مطلوب بتة، والكثير منهم يصير لدوام السهر والهم، وفقد الغذاء إلى الجنون والوسواس، وإلى الدق والذبول، فإذا هم قد وقعوا من جبال اللذة وشباكها في الردى والمكروه، وأدتهم عواقها إلى غاية الشقاء والهلكة).
واستمر في الكلام عن ذم العشق -بنظرة تشاؤمية- إلى أن جعل المفارقة ملازمة لأي علاقة عشقية، فلو سلم المعشوق من حوادث الدنيا وعوارضها فإنه لا يسلم من الموت! فتكون الفرقة لازمة لا محالة، وإذا كان الأمر كذلك فالإسراع بالفرقة والتخلي عن الحب والصبر على مرارة هذا الفراق عاجلا خير من الانتظار حتى الموت فيكون العشق قد تمكن أكثر وتكون المرارة أصعب، فقال:
(إن مفارقة المحبوب أمر لا بد منه اضطرارًا بالموت، وإن سلم من سائر حوادث الدنيا و عوارضها المبدة للشمل المفرقة بين الأحبة. وإذا كان لا بد من إساغة هذه الغصة وتجرع هذه المرارة فإن تقديمها والراحة ومنها أصلح من تأخيرها والانتظار لها. لأن ما لا بد من وقوعه متى قدم أزيح مؤونة الخوف منه مدة تأخيره. وأيضًا فإن منع النفس من محبوبها قبل أن يستحکم حبه ويرسخ فيها ويستولى عليها أيسر وأسهل، وأيضا فإن العشق متى انضم إليه الإلف عسر النزوع عنه الخروج منه... ومتى قصرت مدة العشق وقل فيه لقاء المحبوب كان أحرى أن لا يخالطه ويعاونه الإلف).
ثم إنه جعل الواجب في حكم العقل من هذا الباب المبادرة في منع النفس وزمها عن العشق قبل وقوعها فيه وفطمها منه إذا وقعت قبل استحكامه فيها.
ولم يكتف بذلك بل أخذ في الطعن فيمن خالف في ذلك سواء ووصفه بالرعونة والعناد فقال:
(ولأن قوما رعنا يعاندون و يناصبون الفلاسفة في هذا المعني بكلام سخیف
ركيك كسخافتهم ورکاکتهم -وهؤلاء هم الموسومون بالظرف والأدب-... يقولون: إن العشق إنما يعتاده الطبائع الرقيقة والأذهان اللطيفة، وإنه يدعو إلى النظافة واللباقة والزينة والهيئة، ويشيعون هذا ونحوه من كلامهم بالغزل من الشعر البليغ وفي هذا المعنى، ويحتجون بمن عشق من الأدباء والشعراء والسراة والرؤساء ويتخطونهم إلى الأنبياء، ونحن نقول: إن رقة الطبع والطاقة الذهن وصفاءه يعرفان ويعتبران باشراف أصحابهما على الأمور الغامضة البعيدة والعلوم اللطيفة الدقيقة وتبيين الأشياء المشكلة الملتبسة و استخراج الصناعات المجدية النافعة.
ونحن نجد هذه الأمور مع الفلاسفة فقط ونرى العشق لا يعتادهم، ويعتاد اعتيادًا كثيرًا دائمًا أجلاف الأعراب والأكراد والأعلاج والأنباط. ونجد أيضا من